كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما عكرمة، فقال سنيد بن داود في تفسيره: حدثنا عباد بن عباد المهلبى عن عاصم الأحول عن عكرمة: في رجل قال لغلامه: إن لم أجلدك مائة سوط فامرأتى طالق، قال: «لا يجلد غلامه، ولا يطلق امرأته، هذا من خطوات الشيطان».
فإذا ضممت هذا الأثر إلى أثر ابن طاوس عن أبيه، إلى أثر ابن عباس، فيمن قالت لمملوكها: إن لم أفرق بينك وبين امرأتك فكل مملوك لى حر، إلى الآثار المستفيضة عن ابن عباس في الحلف بتحريم الزوجة: أنها يمين يكفرها- تبين لك ما كان عليه ابن عباس وأصحابه في هذا الباب.
فإذا ضممت ذلك إلى آثار الصحابة في الحلف بالتعليقات. كالحج، والصوم، والصدقة، والهدى، والمشى إلى مكة حافيًا، ونحو ذلك: أنها أيمان مكفرة- تبين لك حقيقة ما كان عليه الصحابة في ذلك.
فإذا ضممت ذلك إلى القياس الصحيح الذي يستوفى فيه حكم الأصل والفرع: تبين لك توافق القياس وهذه الآثار.
فإذا ارتفعت درجة أخرى، ووزنت ذلك بالنصوص من القرآن والسنة، تبين لك الراجح من المرجوح.
ومع هذا كله فلا يدان لك بمقاومة السلطان، ومن يقول: حكمت وثبت عندى، فالله المستعان.
الطريق الرابعة: طريق من يفرق بين أن يحلف على فعل امرأته أو فعل نفسه، أو على غير الزوجة، فيقول: إن قال لامرأته إن خرجت من الدار، أو كلمت رجلًا، أو فعلت كذا فأنت طالق فلا يقع عليه الطلاق بفعلها ذلك، وإن حلف على فعل نفسه، أو غير امرأته، وحنث لزمه الطلاق.
وهذا قول أفقه أصحاب مالك على الإطلاق، وهو أشهبُ بن عبد العزيز، ومحله من الفقه، والعلم غير خاف.
ومأخذُ هذا: أن المرأة إذا فعلت ذلك لتطلق نفسها، لم يقع به الطلاق، معاقبة لها بنقيض قصدها، وهذا جار على أصول مالك وأحمد، ومن وافقهما في معاقبة الفار من التوريث والزكاة، وقاتل مورثه، والموصى له، ومن دبَّره بنقيض قصده، وهذا هو الفقه، لاسيما وهو لم يرد طلاقها، إنما أراد حضها، أو منعها، وأن لا تتعرض لما يؤذيه، فكيف يكون فعلها سببا لأعظم أداه؟ وهو لم يملكها ذلك بالتوكيل والخيار، ولا ملكها الله إياه بالفسخ، فكيف تكون الفرقة إليها، إن شاءت أقامت معه، وإن شاءت فارقته بمجرد حضها ومنعها؟ وأى شيء أحسن من هذا الفقه، وأطرد على قواعد الشريعة؟.
الطريق الخامسة: طريق من يُفصّل بين الحلف بصيغة الشرط والجزاء، والحلف يصيغه الالتزام.
فالأول: كقوله: إن فعلتُ كذا، أو إن لم أفعله، فأنت طالق.
والثانى: كقوله: الطلاق يلزمنى، أوْ لى لازم، أو على الطلاق إن فعلت، أو إن لم أفعل. فلا يلزمه الطلاق في هذا القسم، إذا حنث دون الأول.
وهذا أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب الشافعى، وهو المنقول عن أبى حنيفة وقدماء أصحابه، ذكره صاحب الذخيرة، وأبو الليث في فتاويه.
قال أبو الليث: ولو قال: طلاقُك على واجب، أو لازم، أو فرض، أو ثابت فمن المتأخرين من أصحابنا من قال: يقع واحدة رجعية، نواه أو لم يَنْوِه، ومنهم من قال: لا يقع وإن نوى، والفارق: العرف.
قال صاحب الذخيرة: وعلى هذا الخلاف: إذا قال: إن فعلت كذا فطلاقك على واجب، أو قال: لازم، ففعلت.
وذكر القُدورى في شرحه: أن على قول أبى حنيفة: لا يقعُ الطلاق في الكل، وعند أبى يوسف: إن نوى الطلاق يقع في الكل، وعن محمد: أنه يقع في قوله: لازم، ولا يقع فى: واجب.
واختار الصدرُ الشهيدُ الوقوع في الكل، وكان ظهيرُ الدين المْرِغينانُّى يُفتى بعدم الوقوع في الكل، هذا كله لفظ صاحب الذخيرة.
وأما الشافعية: فقال ابن يونس، في شرح التنبيه: وإن قال: الطلاق والعتاق لازم لى، ونواه لزمه لأنهما يقعان بالكناية مع النية، وهذا اللفظ محتمل، فجعل كناية وقال الرويانى: الطلاق لازم لى: صريح، وعدَّ ذلك في صرائح الطلاق، ولعل وجهه غلبة استعماله لإرادة الطلاق. وقال القفال في فتاويه: ليس بصريح ولا كناية، حتى لا يقع به الطلاق وإن نواه، لأن الطلاق لابد فيه من الإضافة إلى المرأة، ولم يتحقق، هذا لفظه.
وحكى شيخنا هذا القول عن بعض أصحاب أحمد.
فقد صار الخلاف في هذا الباب في المذاهب الأربعة بنقل أصحابها في كتبهم.
ولهذا التفريق مأخذ آخر من هذا الذي ذكره الشارح، وهو أن الطلاق لا يصح التزامه، وإنما يلزم التطليق، فإن الطلاق هو الواقع بالمرأة، وهو اللازم لها، وإنما الذي يلتزمه الرجل: هو التطليق، فالطلاق لازم لها إذا وقع.
إذا تبين هذا فالتزام التطليق لا يوجب وقوع الطلاق، فإنه لو قال: إن فعلت كذا فعلى أن أطلقك، أو تالله على أن أطلقك، أو فتطليقك لازم لى، أو واجب على، وحنث لم يقع عليه الطلاق. فهكذا إذا قال: إن فعلت كذا فالطلاق يلزمنى، لأنه إنما التزم التطليق، ولا يقع بالتزامه.
والموقعون يقولون: هو قد التزم حكم الطلاق، وهو خروج البضع من ملكه، وإنما يلزمه حكمه إذا وقع، فصار هذا الالتزام مستلزما لوقوعه.
فقال لهم الآخرون: إنما يلزمه حكمه إذا أتى بسببه، وهو التطليق، فحينئذ يلزمه حكمه، وهو لم يأت بالتطليق منجزا بلا ريب، وإنما أتى به معلقًا له، والتزام التطليق بالتنجيز لا يلزم، فكيف يلزم بالتعليق؟.
والمنصف المتبصر لا يخفى عليه الصحيح، وبالله التوفيق.
فصل:
وممن ذكر الفرق بين الطلاق، وبين الحلف بالطلاق: القاضي أبو الوليد هشام ابن عبد الله بن هشام الأزدى القرطبي في كتابه مفيد الحكام فيما يعرض لهم من نوازل الأحكام.
فقال في كتاب الطلاق من ديوانه، وقد ذكر اختلاف أصحاب مالك في الأيمان اللازمة. ثم قال: ولا ينبغى أن تتلقى هذه المسألة هكذا تلقيا تقليديًا إلا أن يشمها نور الفهم ويوضحها لسان البرهان، وأنا أشير لك إلى نكتة تسعد بالغرض فيها إن شاء الله تعالى.
منها: الفرق بين الطلاق إيقاعًا، وبين اليمين بالطلاق، وفى المدونة كتابان موضوعان: أحدهما لنفس الطلاق، والثانى للأيمان بالطلاق، ووراء هذا الفن فقه على الجملة. وذلك أن الطلاق صورته في الشرع. حل وارد على عقد، واليمين بالطلاق عَقد فليفهم هذا. وإذا كان عقدا لم يحصل منه حل إلا أن تنقله من موضع العقد إلى موضع الحل بنية، ليخرج بها اللفظ من حقيقته إلى كنايته، فقد نجمت هذه المسألة في أيام الحجاج بعد أن استقل الشرع بأصوله وفروعه، وحقائقه ومجازاته، في أيمان البيعة، وليس في أيمان الطلاق إلا ما أذكره لك. وذلك أن الطلاق على ضربين: صريح، وكناية.
فالصريح: كل لفظ استقل بنفسه في إثبات حكمه تحديدًا.
والكناية: على ضربين، كناية غالبة، وكناية غير غالبة.
فالغالبة: كل ما أشعر بثبوت الطلاق في موضوع اللغة، أو الشرع، كقوله: الحقى بأهلك، واعتدّى.
وغير الغالبة: كل مالا يشعر بثبوت الطلاق في وضع اللغة والشرع، كقوله: ناولينى الثوب، وقال: أردت بذلك الطلاق.
فإذا عرضنا لفظ الأيمان يلزمنى على صريح الطلاق لم تكن من قسمه، وإن عرضناها على الكناية، لم تكن من قسيمها إلا بقرينة، من شاهد حال، أو جارى عرف، أو نية تقارن اللفظ، فإن اضطرب شاهد الحال، أو جارى العرف باحتمال يحتمله، فقد تعذر الوقوف على النية، ولا ينبغى لحاكم ولا لغيره أن يمد القلم في فتوى حتى يتأمل مثل هذه المعاني، فإن الحكم إن لم يقع مستوضحًا عن نور فكرى مشعر بالمعنى المربوط اضمحل.
ثم قال: وأنا ذاكر لك ما بلغنى في هذه اليمين من كلام العلماء، ورأيته من أقوال الفقهاء، وهى يمين محدثة، لم تقع في الصدر الأول.
ثم ذكر اختلاف أهل العلم في الحلف بالأيمان اللازمة.
والمقصود: أنه ذكر الفرق الفطرى العقلى الشرعى بين إيقاع الطلاق، والحلف بالطلاق، وأنهما بابان مفترقان بحقائقهما، ومقاصدهما، وألفاظهما، فيجب افتراقهما حكمًا.
أما افتراقهما بالحقيقة، فما ذكره من أن الطلاق حل وفسخ، واليمين عقد والتزام. فهما إذن حقيقتان مختلفتان، قال تعالى: {وَلكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيَمانَ} [المائدة: 89].
ثم أشار إلى الافتراق في الحكم بقوله: وإذا كانت اليمين عقدًا لم يحصل بها حل، إلا أن ينقل من موضع العقد إلى موضع الحل، ومن البين أن الشارع لم ينقلها من العقد إلى الحل. فيجب بقاؤها على ما وضعت عليه، نعم لو قصد الحالف بها إيقاع الطلاق عند الحنث فقد استعملها في العقد والحل، فتصير كناية في الوقوع، وقد نواه. فيقع به الطلاق، لأن هذا العقد صالح للكناية. وقد اقترنت به النية، فيقع الطلاق. أما إذا نوى مجرد العقد، ولم ينو الطلاق البتة، بل هو أكره شيء إليه، فلم يأت بما ينقل اليمين من موضوعها الشرعى، ولا نقلها عنه الشارع. فلا يلزمه غير موجب الأيمان.
فليتأمل المنصف العالم هذا الفرق، ويخرج قلبه ساعة من التعصب والتقليد، واتباع غير الدليل.
والمقصود: أن باب اليمين وباب الإيقاع مختلفان في الحقيقة والقصد واللفظ، فيجب اختلافهما في الحكم. أما الحقيقة فما تقدم.
وأما القصد. فلأن الحالف مقصوده الحض والمنع، أو التصديق أو التكذيب، والمطلق مقصوده التخلص من الزوجة من غير أن يخطر بباله حض ولا منع، ولا تصديق ولا تكذيب. فالتسوية بينهما لا يخفى حالها.
وأما اختلافهما لفظًا، فإن لفظ اليمين لابد فيها من التزام قَسَمِى يأتى فيه بجواب القسم، أو تعليق شرطى يقصد فيه انتفاء الشرط والجزاء، أو وقوع الجزاء على تقدير وقوع الشرط، وإن كان يكرهه، ويقصد انتفاءه، فالمقدم في الصورة الأولى مؤخر في الثانية، والمنفى في الأولى ثابت في الثانية، ولفظ الإيقاع لا يتضمن شيئًا من ذلك، ومن تصور هذا حق التصور جزم بالحق في هذه المسألة، والله الموفق.
الطريقة السادسة: أن يزول المعنى الذي كانت اليمين لأجله، فإذا فعل المحلوف عليه بعد ذلك لم يحنث، لأن امتناعه باليمين إنما كان لعلة، فيزول بزوالها، وهذا مطرد على أصول الشرع، وقواعد مذهب أحمد وغيره ممن يعتبر النية والقصد في اليمين، تعميما وتخصيصًا وإطلاقًا وتقييدًا. فإذا حلف: لا أكلم فلانة، وكان سبب اليمين الذي هيجها كونها أجنبية، يخاف الوقوع في عرضه بكلامها، فتزوجها. لم يحنث بكلامها، إعمالا لسبب اليمين وما هيجها في التقييد بكونها أجنبية. هذا إذا لم يكن له نية مادامت كذلك، أما إذا كانت له نية فلا إشكال في تقييد اليمين بها.
ونظيره: أن يحلف: لا يكلم فلانًا، ولا يعاشره. لكونه صبيا، فصار رجلًا، وكانت نيته وسبب يمينه لأجل صباه.
ونظيره: أن يحلف: لا دخلت هذه الدار لأجل من يَظُن به التهمة لدخولها، فمات أو سافر، فدخلها، لم يحنث.
وبذلك أفتى أبو حنيفة وأبو يوسف: من حلف: لا دخلت دار فلان هذه، ولا كلمت عبده هذا. فباع العبد والدار.
ونظير هذا: أن يحلف لا يكلم فلانا، والحامل له على اليمين كونه تاركًا للصلاة، أو مرابيًا أو خمارًا، أو واليا، فتاب من ذلك كله، وزالت الصفة التي حلف لأجلها، لم يحنث بكلامه.